لماذا علينا الاعتزاز بمدينتنا ؟
نعم، دائما ما تدفعني الشاعرية والنظرة الوردية المتفائلة لإبراز جمال ومفاتن مدينتي .. في محاولة مني لعكس التيار السائد: الاستلذاذ بالعزف على نغم السلبية والإحباط، والنظر الى الأشياء بتحسر وازدراء لا يتوقفان، والتندر طيلة اليوم بالمساوئ عوض الاستمتاع بمحاسن الأشياء المتوفرة والتغني بعطاءات الجغرافيا والتاريخ السخية التي لم نستكنه أبعادها العميقة بعد ..
وما العيب في أن أحب مدينتي وأمجدها ؟؟ هكذا أنا متمرد بطبعي ومنشق على بيت الطاعة الفكري السائد .. لا أرى إلا الجمال والأنس في مدينتي التي لا أقبل عنها بدلا ؟؟ أليس لي الحق في الاختلاف.. أليس الاختلاف رحمة كما قال السلف ؟؟؟ أليست هي المدينة التي احتضنتني وصقلت شخصيتي وفجرت مكامني ؟؟؟ أليست هي موطن آبائي وأجدادي. ففي الثقافة الصينية، مسقط الرأس هو منزل وسكني أرواح الأجداد، هو مكان أصل العائلة الكبيرة للفرد، وقد يكون أو لا يكون المكان الذي يولد فيه المرء دائما.
دائما ما أحاول طرح الاسئلة التي تدفعنا الى التفكير والنظر إلى واقع مدينتنا المتغير، بحثا بحق عن الوصول إلي إجابات، مستلهما تجاربها الماضية. وتقديم رؤية استشرافية لمستقبل متغير للمدينة أمام واقع سريع التغير بعيدا عن الاجابات التقليدية.. فالمتغيرات والمستجدات تتلاحق.
فما من شك أن المدينة كائن حي ينمو ويمرض وتصيبه الشيخوخة ، وقد تعامل فرانك لويد رايت ( معماري أمريكي رائد عاش بين 8 يونيو، 1867 - 9 أبريل، 1959) مع المدينة ككائن عضوي. وألح على أن نكون معنيين وبكل مسؤولية بإبقاء هذا الكائن نابضاً بالحياة. كما أشار إلى أن التجارب هي التي تصنع المدن ككيان تاريخي وجغرافي. فلا تعدو المدينة أن تكون ركاما من التجارب الإنسانية والحضارية السلبية منها والايجابية. وهي التي تشكل شخصيتها على نحو مغاير لباقي المدن وبالتالي تصيغ توجهاتها في الحياة. يمكن للمدينة أن تتقلب في حياتها حسب الظروف وملابسات التاريخ وتتفاعل معه جدليا وتتذوق تجارب الآخرين من المدن والحضارات بشكل انتقائي يتناسب مع منظومة القيم التي صاغتها. لكن الجميل في كل ذلك أنها تبقى هي نفسها لها طابع خاص كأن هناك خيطا ناظما لها يرافقها منذ مرحلة التأسيس يعمل كمقياس لنفعية الاقتباسات الممكنة. وفي نفس الوقت تضفي هي نفسها على المدن الأخرى من تجاربها الحضارية ما يكسب هويتها غنى وتجددا.
أعود إلى مدينتنا الغراء. فعلى الرغم مما أصابها ويصيبها من وهن نتيجة تنكرنا لها إراديا أو لا إراديا، وما تعرضت وتتعرض له من التهميش و محاولات ممنهجة لبدونتها، إلا أن ذلك لا يمنعها من أن تكون موطننا الروحي.. موطن كل قصري حر وغيور.. فهي لا زالت تحمل في طياتها وعبر ابنائها الخلص بذور الأصالة وتجتر معها مظاهر حضارية لا تنمحى، تنم عن ماض ثري بالانجازات ساهمت معه في بلورة الهوية المغربية. وهنا يطرح السؤال كيف السبيل الى مصالحة المغربي او القصري مع نفسه ومع واقعه مهما كانت درجة السوء التي تكتنفه؟؟؟ تلك إشكالية أصبحت تلازمنا للأسف. فالحياة قصيرة لكي نقضيها في التأسي والتندر.
شخصيا عندما يقتم علي النظر الى مدينتي، يكفي أن أستحضر ملحمة معركة وادي المخازن، او معركة القصر كما في الأدبيات التاريخية البرتغالية والاسبانية بل والاوربية ككل. إحالة الى قوة المكان الذي استعصى على الاختراق وعلى النفاذ الى العمق المغربي. فكانت القصر الكبير قلعة منيعة صنديدة حالت دون تنفيذ المخطط الخبيث لطمس هوية المغرب وقلعه من جذوره. فكان بمثابة الجبهة الأمامية الصامدة للمغرب من جهة وللمغرب الكبير من جهة أخرى.. فأستلهم منها روح التحدي واستمد منها مخزوني الهوياتي ..فتنجلي القتامة وينقشع الظلام عن إشراقة مدوية تغمرني لتصالحني مع نفسي ومع مدينتي.
على أنه في الحقيقة نحتاج إلى زرع ثقافة الحفاظ على المدينة، باعتبارها كائناً حياً. وذلك بإعادة تأهيل أحيائها ومعالمها التاريخية وشوارعنا، مع تحريرها من الباعة المتجولين وعربات الجر، التي لاتزال تنخر جسم المدينة، وتؤثر سلبا على جماليتها. لذا يجب وضع برامج التأهيل والتجديد وبمساهمة مختلف القطاعات والمؤسسات المعنية حفاظا على تراثها العريق وعلى هوية المدينة العتيقة ومعالمها الأصيلة، وإدماجها في منظومة تنموية تهدف إلى تثمين تراثها المادي واللامادي.
ومهما كان حال مدينتنا، فعلينا الاعتزاز بها. إذ في النهاية تظل تجربة حضارية ثرية، لها وقعها تضاف إلى كتاب تاريخنا المجيد الذي يمتد على مسار اثنا عشر قرنا و المليء بالتجارب والعبر.
محمد العربي الجباري